أحيانا أخجل من كتاباتي، يعتريني شعورٌ بالأسف أن الناس لا يقرؤون إلا المنشور، وأن السلطات لا تسمح بتمرير كتابٍ إلا إذا لم يمس شرفها الرخيص بالتصريح أو التلميح، والناس تضعك في خانة «كاتب الحب»، الذي لا يعرف في حياته إلا «سيدتي»، وهم لا يدرون كم ألف كلمةٍ حملتُ بها ولم تُولد بعد، وكم ليلة سهرت وواصلت الليل بالنهار على مكتبي، وكم شهرا عكفت على الكتابة لمشروعٍ تم ولم يؤذن له بحفل الافتتاح، فبدلًا من قص الشريط قصوا لساني.
..
بالسجن دخل كتابي بطرق مختلفة، قرأه الرجال في طرة والوادي وجمصة وغيرهم، وقرأته الفتيات في القناطر، ومن داخلي كنت أرجو ألا يمر، ألا يعبر، سيقولون: أي إنسانٍ هذا الذي يتحدث عن الحب في الحرب؟ عن الحرية في السجن؟ عن أناسٍ غيرنا؟ لكنهم قالوا: بالعكس، نحن لا نحتاج إلى من يبيع المية في حارة السقايين، اكتب عن المشاعر فإنها الوحيد الذي لا يستطيعون الوصول إليه.
..
وكان هذا عزائي الوحيد، وعزائي أن الكلمات أبقى، وأن قلمي من رصاص ومكتبي من خشبٍ متين، أمتن من الخشب المصنوع منه عروش الطغاة، ويوما ما سيفاجؤون أن كل شيء مسجل، وأن المسجل مؤجل، وأن المؤجل إن تأخر مهما تأخر لا يموت.
..
أعود لأكتب روايتي الثانية التي أعلم أنها لن تُنشَر الآن، ويمكنني نشرها بالخارج لكنني أرفض نشر أي كتابٍ لي من خارج مصر أولا؛ فهي المبدأ والمبتدأ ولا يجوز أن يكون كلامي فيها خبرا، أعود لأكتب وأنا أعلم أنها الأخرى ستظل حبيسة درج مكتبي، وسأكتب عوضًا عنها كتابًا، أعلم أنني سأكتبه من كل قلبي، وأعلم أنني سأكون صادقًا في كل حرفٍ به، فالقلم يملكنا ولا نملكه، لكنه يصلح للنشر أكثر من غيره.
..
مكتوبٌ للكتب التي تتحدث عن الإنسان ومشاعره، عن المجتمع والتراث، أن تخرج إلى النور قبل الروايات التي تتحدث عن الإنسان المنسي، والمجتمع المكوي، وأنظمة الظلام. هي فقط قضية الترتيب.. اليوم ننشر عن مصر التي في الذاكرة، وغدا عن مصر التي في القاهرة.
..
بدرج مكتبي سيكون ترتيبه «الرابع»، بعد تنهيدة، وروايتين، تنهدت بهما كثيرا وحبست فيهما أنفاسي ولم يشإ الله أن أطلقها بعد.
..
ووصيتي إذا رآني أحدكم، فليعلم أن خلف اللسان الذي يحكي عن الحب حلقٌ مكتظ بالكلام عن الحرب، وخلف القناع المسالم وجهٌ يقاوم، وخلف التنهيدة نفسٌ طويلٌ مكتومٌ منذ سنوات طوال.
..
- وهل تموت الروايات حبيسة الأدراج؟
- كلا، الحكام يموتون أولا.